كيف تحدث السمنة ؟ .. ان الطعام ضرورة حيوية ، و استهلاك الطعام هو غريزة طبيعية مقصود بها اطالة الحياة و استمرارها . و من خلال التكرار و الترابط تكتسب بعض الأغذية قيم عاطفية خاصة ، مثل منتجات الألبان التي ترتبط بالطفولة المبكرة و العلاقة مع الأم ، كما أن الحلوى ترتبط بالمكافأة و الرضا ، فيما ترتبط الأغذية البروتينية و اللحوم بالقوة و الرجولة . و يرتبط الأشخاص من مجموعة عرقية معينة بأغذية لها علاقة ببلادهم الأصلية ، فيرتبط الهنود بالكاري و المأكولات الحريفة ، و يرتبط المصريون بالفول و الطعمية و الكشري ، و يظل هذا الارتباط موجودا جتى لو هاجر هؤلاء الأشخاص لبلاد تبعد عن بلادهم الأصلية بألاف الكيلومترات ، ذلك أن تجاربهم العاطفية في الطفولة ترتبط بهذه الأغذية ارتباطا وثيقا .
و يشيع القول بين الناس ان هناك طعام جيد و آخر سيء من حيث القدرة على زيادة الوزن، فنجدهم يعتقدون انهم قد أخطأوا خطأ شنيعا اذا أكلوا نوع ما من الأغذية، و لكن الواقع يقول انه ليس هناك طعام جيد و آخر سيء . فالجزر مثلا ليس أفضل من قرع العسل أو الأيس كريم ، لكن الناس يضعون قيما عاطفية لكل نوع من الطعام ، فيعتقد البعض أن تناول طعام مما يطلق عليه سيء يمكن أن يجعله شخصا سيئا أو مهملا للنظام الغذائي الجيد ، كما أنه ليس هناك أغذية يمكن أن تسبب بذاتها زيادة الوزن . ان تناول كمية كبيرة من أي غذاء بما في ذلك عيدان الكرفس قد يشارك في حالة زيادة الوزن ، كما ان تناول الحلويات و الكيك لا يعد مسئولا عن زيادة الوزن اذا كانت الكميات مناسبة . و من المعروف أن ملايين من الايطاليين يأكلون المكرونة و لا يصبحون سمناء ، كما أن اليابانيين يأكلون أطنانا من الأرز ولا يشتهرون كشعب من ذوي الأوزان الثقيلة .
حقيقة الأمر أن الشخص زائد الوزن يأكل أكثر مما ينبغي، و يستهلك طعاما أكثر من حاجة الحسم أو من قدرة الجسم على الاستهلاك، مما يستدعي تخزين الزائد في حالة دهون. في هذه الحالة لا تعد الشهية عاملا مهما حيث أن الشخص السمين قد يأكل حتى و هو غير جائع، و أيضا و هو ممتلئ المعدة. و من المعروف أن الشخص السمين يأكل في معظم الأحيان لكي يشبع احتياجا عاطفيا مثل الملل و الاحساس بالوحدة، و ايضا عدم الاشباع الجنسي أو العاطفي، و لكل شخص احتياجاته التي يأكل من أجلها . و لكن كيف يمكن للاحتياجات العاطفية أن ترتبط و تختلط مع الجوع ، و مع الرغبة في تناول الطعام ؟ من المهم أن نلاحظ أن السمين العادي يكون بعيدا عن التواصل مع أجهزة جسده . و لاسباب مختلفة فانه قد يدرب نفسه ألا يختبر عديدا من المشاعر مثل الغضب وخيبة الأمل وضعف الميل الجنسي و التعب و الألم، و احيانا يكون الشخص السمين اختياريا في عدم الاحساس ببعض المشاعر ، فيرفض أن يتعامل مع هذه المشاعر بعقله الواعي فيما يتعامل عقله الباطن معها و يصدر لها ردود أفعال معينة .
ولأن الجوع هو شعور مقبول و ضروري للاستمرار في الحياة ، فالشخص السمين قد يكون جائعا بصفة دائمة ، أو قد يشعر بهذا الاحساس بديلا عن أي شعور آخر . و بمعنى آخر فان الشخص السمين قد يشعر بالجوع بحيث لا يضطر أن يواجه غضبه ، فيصبح الجوع هو البديل الشرعي لهذا الغضب و هو شعور سلبي . عندئذ بدلا من أن " ينهش جسد رئيسه في العمل " فانه ينهش شطيرتين من الهامبورجر . وفي هذه الحالة لا يعتبر الشخص السمين الأكل متعة ، بل يعتبره نوع من تجاوب المشاعر و العواطف . لذلك يجب أن نعرف أنه عندما يحكم على الشخص السمين بالامتناع الحاد عن الطعام – في حالة اتباع ريجيم غذائي مثلا – بدلا من الامتناع عن مشاعر سلبية معينة ، فانه يكره ذلك في عقله الباطن كما يكره أي شخص آخر حكما بالسجن، لأن ذلك سوف يحرمه من القنوات البديلة للتنفيس عن مشاعره السلبية التي لا يمكنه – و لا يعرف – أن يعبر عنها . و لهذا السبب فان عملية تنظيم الغذاء بالرجيم لا تكون فعالة في هذه الحالة ، ذلك أن الريجيم بالنسبة للسمين هو عقاب جسدي لاحتياج عاطفي قد لا يكون مقبولا من عقله الباطن . حقيقة أنه في مثل هذه الحالات قد ينجح الريجيم الغذائي مؤقتا ، اذ يستعمل الشخص السمين بعض التحكم في النفس أو قوة الارادة ، لكن ذلك كله يتداعى و يتلاشى بمجرد تصاعد المشاعر السلبية مرة أخرى . و كما هو الحال في معظم المشاكل المرتبطة بالمشاعر ، فان الوزن الزائد لا يعني فقط الأكل النهم ، ذلك أن دهون الجسم المتراكمة هي مجرد عرض و علامة لشيء أعمق و أكثر ايلاما لدرجة أن الشخص السمين ببساطة لا يستطيع التعامل معه بعقله الواعي ، اذ يشعر عندئذ بالقلق و الخوف .
من ناحية أخرى ، فان النسيج الدهني الزائد هو طبقة للحماية ، و درع للوقاية من الاخطار ، و الشخص السمين يحمي نفسه من مواجهة شيء ضار ، قد يكون هذا الشيء هو نقص في الثقة بالنفس ، و هو ما يظهر في عدة أشياء مثل خلل في العلاقة الزوجية ، أو في المشاركة و الارتباط ، أو في التحصيل ، أو في مهارات التواصل مع الآخرين ، أو في الاحساس بالضعف . و في مواجهة ذلك قد يلجأ الشخص السمين للعب دور الفتوة أو دور المسيطر في محاولة لتعويض ما يشعر به من نقص ، كما قد يقوم بالسخرية من وزنه الزائد ، علما بأن سخرية الآخرين من سمنته تسبب له ألما نفسيا شديدا .
و يشعر الشخص السمين في أعماقه أنه غير قادر على تحقيق ما يأمله في بعض نواحي الحياة ، و قد يعتقد أنه لا يستحق الحب أو المشاعر الطيبة أو الصحة أو اهتمام الآخرين به ، و قد يعتقد أنه أضعف من أن يحقق نجاحا ، فيشعر بالأسف لنفسه ، و هو نوع من المشاعر تعود أن يتجاهله ، حيث أنه قد أقام جدارا سميكا حول نفسه . و في شعوره بالأمن داخل قلعته الجسدية ، لا يحاول أن يتخلى بسهولة عن هذه الحماية المقامة حوله . و اذا حدث و انهارت جدران الحماية هذه ، فانه يبدأ في الشعور بالضعف و الهشاشة و قلة الحيلة ، فيلجأ الى عرض جديد يحتمي فيه بديلا عن السمنة .
ومع الوضع في الاعتبار أن جسد الانسان لدية قدرة فائقة على المرونة في التعامل مع الأوضاع التي قد تضر به ، و هي حقيقة تدهش العلماء من قدرة هذا الجسد على الحياة بصورة طبيعية رغم ما يفعله به صاحبه ، لكن هذا الجسد ليس هو المشكلة في قضية الوزن الزائد أو السمنة ذلك ان المشكلة تكمن في المشاعر و العادات و الاعتقادات الخاطئة ، و هى المناطق التي تحتاج للمساعدة ، و منها يجب أن يبدأ الحل لموضوع السمنة أو الوزن الزائد .
ان الحل الحقيقي للسمنة و الوزن الزائد يكمن في حل مشاكل الشخص السمين و التعامل مع الارتباكات الداخلية التي قادته الى هذه الزيادة في الوزن . و بداية يجب على الطبيب الذي بتعامل مع الشخص السمين أن يبتعد عن الكلمات التي تحتوي على معني "الفقد" مثل فقد الوزن وغير ذلك من المعاني ، ذلك أن فقد الوزن يعني للشخص السمين ما يقابل فقد ذراع أو عضو هام من الجسم . ان كلمة "فقد " لها وقع سلبي لدي الشخص السمين ، لذا يفضل استعمال كلمات مثل سوف "تكسب" جسدا رشيقا و شكلا أفضل . كما يجب ان يستعمل الطبيب كلمات ايجابية فلا يصف الشخص السمين بكلمات تجرح مشاعره . و لقد قابلت مرضى شعروا بمرارة شديدة من أطبائهم بل و انقطعوا عن زيارتهم لمجرد أن الطبيب علق بلا مبالاة على سمنتهم ، أو سخر من كيلوجرامات نححوا في التخلص منها بكلمات مثل " اثنين كيلو جرام ها يبانوا في ايه و لا ايه " ، أو " انتي لسه قدامك كتير يا مدام" ، أو "جهاز ضغط الدم مش ها يلف على دراعك ، انتي محتاجة جهاز حجم كبير" ، أو عاوز أغطيكي بملاية على سرير الكشف بس مفيش ملاية على مقاسك" ، و غير ذلك من الكلمات التي قد يرددها المعالج بدون انتباه لتأثيرها المدمر على نفسية الشخص السمين .
و اذ نتطرق الى مناقشة الغذاء و الأنظمة الغذائية المختلفة ، يجب مراعاة ان التركيز على الغذاء فقط لا يحقق الفائدة المرجوة ، اذ أن الغذاء ليس هو جوهر المشكلة ، بل هو عرض لمشكلة أعمق لا تحل بمجرد اتباع نظام غذائي أو تقييد سلوك معين . و من المهم أن يعرف المريض أنه يتعامل مع الطعام على أنه غذاء مقبول ، اذ لا يوجد طعام جيد و طعام سيء و انما هو طعام فحسب . صحيح أن الشخص السمين سوف يصاب بالذعر و الصدمة اذا ما قيل له أن يأكل أي شيء يريده ، و سيعرب الكثيرون عن خوفهم من أن يأكلوا كل ما يرونه متخوفين بذلك من زيادة وزنهم زيادة هائلة مما يعرضهم للانهيار النفسي ، لكن هؤلاء الأشخاص سوف يدركون أنه اذا كانت كل أنواع الطعام مسموح بها فان الضغط الذي يستشعرونه لأكل الطعام الممنوع سوف يزول ، و بالتالي سوف تزول الرغبة الجارفة في التهام كميات كبيرة من الطعام ، اذ لن يكون هناك استمتاع في حشو نفسك من طعام كنت تريده لمجرد انك ممنوع من تناوله .
يلي ذلك التركيز على ما يتخيله المريض عن نفسه ، و كيف يرى نفسه كانسان ، و هنا نحاول أن نوضح له الصورة الايجابية الجديدة التي يريد أن يرى نفسه فيها بعد أن يتخلص من الكيلوجرامات الزائدة . هنا يجب على الشخص أن يختار بنفسه بين الرشاقة و صعوبة الحركة ، بين الصحة و المرض ، بين صورة الشخص الضعيف الذي يختبيء خلف قلعته الدهنية و بين صورته و هو في جسد فارع سهل الحركة . و من المهم هنا التركيز مرة أخرى على أن المشكلة ليست في الطعام ، بل في مشاعرنا التي تدفعنا الى تناول طعام لا نحتاجه الا لمجرد التعبير عن مشاعر سلبية لا نستطيع التعبير عنها في قنواتها الصحيحة . و سنجد مع الوقت أن فقد بعض الكيلوجرامات سيساعد الشخص السمين على زيادة تقديره لنفسه و على احساسه القوي بذاته ، و هذا سيساعده على الاستمرار في فقد مزيد من الكيلوجرامات بمضي الوقت ، و من ثم الحفاظ على الوزن الجديد دون مجهود يذكر .
من هنا تبدو أهمية استعمال الابر الصينية في مساعدة الساعي لانقاص وزنه . فقد أثبتت الدراسات المعملية على حيوانات التجارب أن فئران التجارب السمينة تعاني من انخفاض في مادة السيروتونين ، و بعد تثبيت بعض الابر في نقاط معينة في الأذن يلاحظ أن مادة السيروتونين قد عادت لمعدلاتها الطبيعية مقارنة بالفئران التي لا تعاني من السمنة ، و في نفس الوقت يلاحظ انخفاض وزن الفئران السمينة حتي مع تركها لتأكل بحرية ، مما يعود بها لمعدلات الوزن الطبيعية مقارنة بمثيلاتها من الفئران غير السمينة . و من المعروف أن مادة السيروتونين تتدخل في عملية حدوث الاكتئاب لدى البشر ، فانخفاضها يحدث الاكتئاب ، كما أن وجودها بنسب طبيعية يعالج الاكتئاب ، ويقلل من الشره للأكل ، و ينشط مركز الشبع في المخ ، كما يزيد من الطاقة المنصرفة من الجسم . و من المعروف أن مضادات الاكتئاب الشهيرة تعمل من خلال زيادة مادة السيروتونين في المخ . و هناك نقطة طريفة أخرى تتعلق بالابر الصينية ، ذلك أن العلماء الذين درسوا تأثيرات الطب البديل و منها الابر الصينية في علاج الامراض المختلفة لاحظوا أن المريض يستفيد من الوقت و الرعاية الخاصة التي يمنحها الطبيب للمريض عند العلاج بالوخز بالابر ، حيث يستغرق العلاج فترة تصل الى عشرين دقيقة تتستخدم في تواصل محبب بين الطبيب و المريض ، مما يساعد المريض في الانتصار على مشاكله النفسية ، و التي تكثر في حالة الاصابة بالسمنة . و من المهم أن يحصل مريض السمنة على تعاون الأسرة و المجتمع المحيط به و مساندته نفسيا و عاطفيا ، بل وعدم تحطيم رغبته في استعادة الرشاقة و الحيوية و الصحة ، و أيضا مساندته بعدم الضغط عليه للتنازل عن عادات غذائية جديدة قرر تبنيها في اطار جهده للعودة للرشاقة .
و في حالة واقعية ، هربت الزوجة من مشاكلها مع زوجها ومن عدم شعورها بالاستقرار و السلام النفسي الى السمنة ، و زاد وزنها زيادة هائلة ، و تقول الزوجه ان زوجها كان يبدو مبتهجا بسمنتها ، خاصة ان اصدقائهما كانوا يثنون على رشاقة الزوجة و جمالها قبل الزيادة . و لأن الزوج هو الآخر ممتلء الوزن فقد كان يشعر بالغيرة من رشاقة زوجته . و ارتاح الزوج عندما وقعت الزوجة في مستنقع السمنة و لم يخف مشاعره تلك عن زوجته . و عندما استعادت الزوجة توازنها النفسي و قررت أن تستعيد رشاقتها وقف لها الزوج بالمرصاد بل وراح يحبط من حالتها النفسية باقوال مثل " تزيدين بالكيلوجرامات و تفقدين بالجرامات .. لن تنجحي أبدا و لن تعودي لرشاقة زمان " .. في هذه الحالة فان علاج المشاكل الزوجية سيلغي المشاكل النفسية التي تقود الي السمنة كمتنفس بديل ، و أيضا سيساعد الطرفين على الحصول على دعم كل منهما نفسيا للآخر .
من كتاب "أسرار الجسد .. طريق الرشاقة والحيوية الدائمة" للدكتور عماد صبحي – باب "المشكلة والحل"